أكتب الآن هذه الكلمات ودموعي تنساب تارة وتجاريني، وتتحجر تارة وتعاندني.. أكتب إليكم الآن وأنا المواطنة المصرية المخلصة المحبة لبلدها.. المقهورة في حريتها.. المهدرة كرامتها بين لجان الضباط الليلية، وفي إشارات المرور، والمتحرش بها من قبل جندي أمن مركزي لا يفرق بين الألف و"كوز الدرة".. أنا الفتاة المصرية التي حصلت على البكالريوس، وعملت وتزوجت وأنجبت طفلين.. أرعاهما، وأرجو أن يبارك لي الله فيهما.
لم أكن أبدا سلبية، بل إن جرأتي في اتخاذ المواقف كثيرا ما تثير حفيظة البعض، وتخيفهم مني.. متطرفة أنا عندما أعرف أن هناك حقا ويجب أن أكون في جانبه، وصادقة جدا في ندمي واعتذاري عندما أعلم أنني كنت على جانب كنت أحسبه حقا.
أكره أنصاف الحلول وأنصاف المواقف وأنصاف الحقائق وأنصاف البشر، لكنني اعترف لكم أنني لم أقرر المشاركة في الحياة العامة أو ما يسميها البعض الأنشطة السياسية سوى خمس مرات فقط.. يعدون على أصابع اليد الواحدة كما ترون.. لست ناشطة سياسية ذات دور فعال، ولكني فقط شاركت خمس مرات في مواقف كنت أجد أن مشاركتي فيها ذات معنى وقيمة.
أول المواقف كان ذهابي لزيارة المدون كريم عامر في سجن برج العرب بتهمة ازدراء الأديان وإهانة رئيس الجمهورية، وكان شابا صريحا واضحا قويا في كل ما كتب، ولكنه للأسف كان أداة استخدمتها الداخلية لتخويف بقية المدونين، لمنعهم من إهانة رئيس الجمهورية وليس ازدراء الأديان، فهؤلاء لا دين لهم.. وجدت أن زيارتي لهذا الشاب الذي انفض عنه الجميع ربما ستسهم في تخفيف وحشة السجن عن نفسه.. زرته زيارة واحدة فقط مع روضة وشاهيناز ولم أكررها.
ثاني المواقف كان مشاركتي المنحازة تماما في انتخابات نقابة الصحفيين الماضية بتأيدي للمرشح - الذي لم يفز طبعا - ضياء رشوان، والذي وجدت أنه سيحقق استقلالا لنقابة الصحفيين التي انتمي إليها، فيما يؤكد أنصار مرشح الحكومة مكرم محمد أحمد أن ضياء رشوان سيحول النقابة إلى ساحة للإخوان المسلمين "ألا تلاحظون أنها نفس الفزاعة التي تفض دائما الأنصار وتحولهم إلى أعداء".. عموما شاركت بالانحياز التام لضياء رشوان، فقط لأن صوتي له قيمة حقا، ولأني أقدر على حشد أصوات أصدقائي له، ولأثبت للجميع أنه ليس إخوانيا، فأنا لست من المنتمين للجماعة ولا مع المتعاطفين مع أفكارها، رغم دفاعي المطلق عن حقها كغيرها في ممارسة كافة الأنشطة السياسية والعامة.
ثالث المواقف عندما ذهبت إلى المطار لاستقبال الدكتور محمد البرادعي، فقط لأنه أعطاني الأمل في بدائل، أو بالأحرى أعطى لكل بليد مجالا للتفكير في بديل غير جمال مبارك أو الإخوان المسلمين.. ذهبت لاستقباله لأني وجدت أن ذهابي إلى المطار سيفرق عدديا وسيخيف كل من ظلوا يخدعونا لسنوات بعدم وجود بدائل، رغم أنهم هم من خنقوا كل الكوادر الجيدة وأبعدوها.
رابع المواقف كان ذهابي إلى تظاهرة في دوران شبرا بعد ليلة رأس السنة الماضية.. ذهبت لأثبت لأقباط مصر أني مسلمة وضد تفجيرات كنيسة القديسين، وبالمناسبة لم أكرر الذهاب إلى أي تظاهرات أخرى أعدت بعد هذا الحدث، لأني أثق أن كل الأقباط يعرفون من هو المتسبب في تفجير كنيسة القديسين، ولأني وجدت أن مجرد مشاركتي في مثل هذه التظاهرات لا يفيد الأقباط، ولكنه فقط يصب في صالح نظام أشعل الفتنة ويريدني أنا أن أخمدها، ولن أخمد أي من فتن هذا النظام ما حييت.. فمن أحضر العفريت عليه صرفه.
خامس المواقف كان يوم الثلاثاء الموافق 25 يناير 2011 عندما شاركت في يوم الغضب لأني قررت أن أسعى كما أمرني الله خلف حريتي وكرامتي وحرية وكرامة أطفالي.. خرجت طلبا لحقي في حياة بلا قهر أو خوف أو قلق أو ذل أو تحرش أو مرض أو موت مفاجيء لا علاقة له بـ"موتة ربنا".. خرجت وفرحت وفخرت بكل المصريين م هذا اليوم.. رأيت مصريين كنت أبحث عنهم دائما.. لن أتمادى في توصيف جمال المصريين في هذه الفترة القصيرة، فأنا لا أتحسر أبدا على أيام جميلة ومبهجة رغم صخبها ومحنتها واختبارها لإرادتنا في اختيار حياة كريمة أو موت بشرف.
لكن جاء يوم الأثنين الأسود عقب خطاب الرئيس.. وعدنا إلى حيث بدأنا.. النقطة صفر.. أخلاق بدائية هبت في وجوهنا، وفئران خرجت من جحور عفنة، وبشر يعون ويرغبون في الحفاظ على مكاسب حققوها من استمرار الوضع على ما هو عليه، وغيروا مواقفهم بين ليلة وضحاها بأنانية مفرطة في فجاجتها، وآخرون لا يعون لكنهم يعتقدون أن الوضع الحالي هو قمة الأمان الذي يضمن العيش والسلام، وقطاع ثالث صدق فعلا خطاب الرئيس الذي قال لهم – وحتى لم يقلها – على ضمانتي يا ولاد، ثم فريق رابع انتهز الفرصة فورا للقفز من سفينة الثوار والارتماء بكل سماجة في أحضان النظام مرة أخرى، وعذا ما أعتدناه دوما.. وفريق خامس وكان الأخطر وهو الذي لم يخرج أصلا في يوم الغضب، وكان منتظرا فقط كلمة من "كبير العيلة" ليؤيد موقفه الرافض للانتفاضة بأكملها.. هذا الفريق هو الذي ظل ثلاثين عاما مفرطا في حقوقنا بحجة أن "اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش".. هو الآن قائد النضال ضد متظاهري ميدان التحرير.. هو الفريق الذي عشق جلاده واستعذب خداعه وقهره لنفوسهم وسيحتمل القهر حتى الموت.. أما الفريق الأكثر خسة فهم المأجورين الذين يشجعون اللعبة الحلوة ويناصرون من يدفع أكثر.. وما أكثرهم.
أقول لكم هذا وأنا مستمرة في النزول إلى ميدان التحرير حتى اللحظة، وسأنزل غدا الجمعة وما بعده، إذا كان هناك أياما أخرى باقية في أيام هذه الثورة. سأكمل المشوار إلى نهايته، ووقت أن يقول الثوار كفى سأعود معهم.. وإن فشلنا، لكني أتعهد أمام الله وأمامكم وأمام زوجي وأبنائي أنه في حال فشل هذه الثورة الطاهرة التي اتهمتم من فيها بالتخريب والتدمير والمتاجرة بالوطن و"زعزعة" موات استقراركم، وتعطيل مصالحكم وقطع أرزاقكم والعمالة لإيران وفلسطين وإسرائيل وأمريكا والإخوان في آن واحد "ما هذا العته؟؟" مستخدمين البلطجية بكل صنوفهم في الإعلام والصحافة والفن والشارع.. أتعهد أمامكم جميعا أنني سأفعل التالي:
أولا: لن أشارك في أي عمل عام على الإطلاق.
ثانيا: لن أبكي على من يموتون في حوادث الطرق بالعشرات يوميا بسبب سوء الطرق وإهمال المستشفيات.
ثالثا: لن أتأثر على شهيد تعذيب في قسم شرطة، وإن رأيته يسحل أمام عيني سأدير وجهي لأشاهد ملصقا إعلانيا.
رابعا: لن يهتز قلبي حزنا على طفل ينهش السرطان كبده.
خامسا: لن أتبرع يوما لأي نشاط خيري أيا كان نبله.. بالدم أو بالمال.
سادسا: لن أنهار من ألم امرأة تعيش مع ابنائها في الشارع في برنامج "واحد من الناس"
سابعا: لن اتعاطف قيد أنملة مع الواقفين أمام باب 15 في التليفزيون منتظرين محمود سعد ليزوج البنت ويجهز الولد.
ثامنا: لا علاقة لي بامرأة يتحرش شابا بابنتها في الشارع ويأتي صوتها صارخا في برنامج العاشرة مساءا.
تاسعا: لن أسمح لنفسي بالشحتفة على موظفة رفضت رشوة فنقلها مديرها أو سائق تاكسي يفرض عليه أحد البلطجية إتاوة في موقف السيارات.
عاشرا: لو لان قلب الحجر على رجال ونساء يقطعون بعضهم البعض في طوابير العيش والأنابيب، فلا تنتظروا أن يلين قلبي لهؤلاء.
11- لن أدافع عن شخص اتهم زورا في قضية مخدرات أو دعارة أو شذوذ، حتى وإن كنت أعلم أنه بريء.
12 - سأعيش لنفسي ولزوجي وابنائي وأهلي عموما وأصدقائي المقربين فقط.. مشاكلهم هي مشاكلي وبيتي وبيوتهم هي وطني.
13- إذا شاهدت يوما أحد الكلاب يعوعي على إهانة كرامة المصريين خارج مصر، فليس لدي سوى بصقة بحجم هرائه على وجهه وعلى مقبرة كرامته.
14- فليغرق الشباب في العبارات ومراكب الهجرة غير الشرعية.. وأنا مالي.
15- لن أسمع صوت استغاثة جارتي من لص يسرقها، فإذا استغاثت سأعلي صوت التليفزيون على أغنية "بلدي وباحب أنا كل حتة في بلدي" حتى لا أسمعها وحتى لا يسمعها أحد أصلا، فليسرقها اللص ويقتلها ويقتل أطفالها معها.
13- سأظل أحلم دوما باليوم الذي يسافر فيه ابني وابنتي إلى خارج حدود هذا الوطن ليعيشوا كما أردت وكما حاولت.. بشرا يعرفون حقوقهم ويدافعون عنها، ويعرفون حقوق غيرهم ويدافعون عنها أيضا وبنفس القوة وإن اختلفوا معهم.
14- بعد أن شاهدت بعيني أطهر الدماء تسيل من أجل أسمى المعاني وأسمى المطالب، وبعد أن شاهدت بعيني من يهاجمون هؤلاء الأطهار بأعتى الأسلحة وأحط الكلمات من أجل حياة هي أقرب للموت لأنها تضع الأمان في مقابل الحرية والكرامة.. الخبز في مقابل الشرف.. فلا كلام عندي سوى ما قلته وسوى أنني حقا خجلة من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون، لأن دماءهم راحت هدرا.. سلام على الشهداء.. ارقدوا في سلام وأنا أرقد هنا قريبا منكم في الاستقرار والأمان.. حقا حتى ذويكم الذين تركتوهم أنا لن أرعاهم ولن أسأل عنهم، فكما قلت لكم.. لقد قررت أن أعيش لنفسي وأهلي وأصدقائي فقط.. لهم رب يحميهم يا شهداء ماتوا مقهورين من أجل أن نعبث نحن في هذه الحياة.. ضيعنا دماءكم هدرا وستضيع حياتنا هباءا.. وهذا عقاب نستحقه.
دعاء سلطان أما إذا نجحت الثورة.. فلنا كلام آخر وبيان جديد